منتدى ديرغسانه
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى ديرغسانه

سياسي-اجتماعي-ثقافي ترفيهي
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 ناجي العلي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عمر خطاب
Admin



المساهمات : 62
تاريخ التسجيل : 31/10/2007

ناجي العلي Empty
مُساهمةموضوع: ناجي العلي   ناجي العلي Icon_minitimeالخميس نوفمبر 29 2007, 09:30

ناجي العلي Najeeeeeeeeee
بقلم ناجي العلي

طور الصبا

اسمي ناجي العلي .. ولدت حيث ولد المسيح ، بين طبرية والناصرة ، في قرية "الشجرة" بالجليل الشمالي ، أخر جوني من هناك بعد 10 سنوات – في 1948 إلى مخيم عين الحلوة في لبنان .. أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكر بقية عمري، أعرف العشب والحجر والظل والنور، لا تزال ثابتة في محجر العين كأنها حفرت حفراً .. لم يخرجها كل ما رأيته بعد ذلك.

.. أرسم .. لا أكتب أحجبة، لا أحرق البخور، ولكنني أرسم، وإذا قيل إن ريشتي مبضع الجراح، أكون حققت ما حلمت طويلاً بتحقيقه .. كما أنني لست مهرجاً، ولست شاعر قبيلة – أي قبيلة – إنني أطرد عن قلبي مهمة لا تلبث دائماً أن تعود .. ثقيلة .. ولكنها تكفي لتمنحني مبرراً لأن أحيا .

متهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها .. أنا لست محايداً، أنا منحاز لمن هم "تحت" .. الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات. أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم، ولمن يقضون لياليهم في لبنان شحذاً للسلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئها .. ولمن يقرأون كتاب الوطن في المخيمات ..

كنت صبياً حين وصلنا زائغي الأعين، حفاة الأقدام، إلى عين الحلوة .. كنت صبياً وسمعت الكبار يتحدثون .. الدول العربية.. الإنكليز .. المؤامرة .. كما سمعت في ليالي المخيم المظلمة شهقات بكاء مكتوم .. ورأيت من دنت لحظته يموت وهو ينطلق إلى الأفق في اتجاه الوطن المسروق. التقطت الحزن بعيون أهلي، وشعرت برغبة جارفة في أن أرسمه خطوطاً عميقة على جدران المخيم.. حيثما وجدت مساحة شاغرة .. حفراً أو بالطباشير..

وظلت أرسم على جدران المخيم ما بقي عالقاً بذاكرتي عن الوطن، وما كنت أراه محبوساً في العيون، ثم انتقلت رسوماتي إلى جدران سجون ثكنات الجيش اللبناني، حيث كنت أقضي في ضيافتها فترات دورية إجبارية.. ثم إلى الأوراق .. إلى أن جاء غسان كنفاني ذات يوم إلى المخيم وشاهد رسوماً لي، فأخذها ونشرها في مجلة "الحرية". وجاء أصدقائي بعد ذلك حاملين نسخاً من "الحرية" وفيها رسوماتي.. شجعني هذا كثيراً.

حين كنت صبياً في عين الحلوة، انتظمت في فصل دراسي كان مدرسي فيه أبو ماهر اليماني.. وعلمنا ابو ماهر أن نرفع علم فلسطين، وأن نحييه، وحدثنا عن أصدقائنا وأعدائنا.. وقال لي حين لا حظ شغفي بالرسم "ارسم.. لكن دائماً عن الوطن"..

وتوجهت بعد ذلك إلى دراسة الفن أكاديمياً. فالتحقت بالأكاديمية اللبنانية لمدة سنة، أذكر أنني لم أداوم خلالها إلا شهراً أو نحو ذلك، والباقي قضيته كما هي العادة في ضيافة سجون الثكنات اللبنانية .. كانوا يقبضون علينا بأية تهمة. وبهدف واحد دائماً: هو أن نخاف، وكانوا يفرجون عنا حين يملون من وجودنا في السجن، أو حين يتوسط لديهم واحد من الأهل أو الأصدقاء.

ولأن الأمور كانت على ما كانت عليه، فقد فكرت في أن أدرس الرسم في القاهرة، أو في روما، وكان هذا يستلزم بعض المال، فقررت أن أسافر إلى الكويت لأعمل بعض الوقت.. وأقتصد بعض المال.. ثم أذهب بعدها لدراسة الرسم..

وصلت بالفعل إلى الكويت عام 1963، وعملت في مجلة "الطليعة" التي كانت تمثل التيار القومي العربي هناك في ذلك الوقت .... كنت أقوم أحياناً بدور المحرر والمخرج الفني والرسام والمصمم في آن واحد.. وبدأت بنشر لوحة واحدة .. ثم لوحتين.. وهكذا .. وكانت الاستجابة طيبة .. شعرت أن جسراً يتكون بيني وبين الناس، وبدأت أرسم كالمحموم، حتى تمنيت أن أتحول إلى أحد آلهة الهند القدامى .. بعشرين يداً .. وبكل يد ريشة ترسم وتحكي ما بالقلب .. عملت بصحف يومية بالاضافة إلى عملي، ونشرت في أماكن متفرقة من العالم..

كنت أعمل في الكويت حين صدرت جريدة "السفير" في بيروت. ولقد اتصل بي طلال سلمان وطلب مني أعود إلى لبنان لكي أعمل فيها. وشعرت أن في الأمر خلاصاً، فعدت ولكني تألمت وتوجعت نفسي مما رأيت. فقد شعرت أن مخيم عين الحلوة كان أكثر ثورية قبل الثورة. كانت تتوفر له رؤية أوضح سياسياً، يعرف بالتحديد من عدوه وصديقه. كان هدفه محدداً فلسطين، كامل التراب الفلسطيني.

وبدأ الغزو..

عندما بدأ الغزو كنت في صيدا. الفلسطينيون في المخيمات شعروا أنه ليس هناك من يقودهم. اجتاحتنا إسرائيل بقوتها العسكرية، انقضت علينا في محاولة لجعلنا ننسى شيئاً اسمه فلسطين. وكانت تعرف أن الوضع عموماً في صالحها، فلا الوضع العربي، ولا الوضع الدولي ولا وضع الثورة الفلسطينية يستطيع إلحاق الهزيمة بها. والأنظمة العربية حيدت نفسها بعد "كامب ديفيد".
بعد أن تم الاحتلال، كان همي أن اتفقد المخيم لأعرف طبيعة المقاومة والقائمين بها. أخذت معي إبني – وكان عمره 15 سنة وذهبنا في النهار. كانت جثث الشهداء ما زالت في الشوارع والدبابات الاسرائيلية المحروقة على حالها على أبواب المخيم لم يسحبها الإسرائيليون بعد، تقصيت عن طبيعة المقاومين فعرفت أنهم أربعون أو خمسون شاباً لا أكثر كان الاسرائيليون قد حرقوا المخيم والأطفال، والنساء كانوا ما زالوا في الملاجئ، وكانت القذائف الاسرائيلية تنفذ الى الأعماق وكان قد سقط مئات الضحايا من الأطفال في المخيم وفي صيدا. وبشكل تلقائي عاهد هؤلاء الشباب أنفسهم أنهم لن يستسلموا وأنها الشهادة أو الموت، وفعلاً لم تستطع إسرائيل أن تأسر أي واحد من هؤلاء الشباب. في النهار، في ضوء الشمس كانت إسرائيل تنقض عليهم. وفي الليل يخرجون هم بالأربي جي. فقط .

هذه صورة مما حدث في مخيم عين الحلوة، وأنا شاهد، ولكني أعرف أن هناك صوراً أخرى في مخيمات صور والبرج الشمالي والبص والرشيدية.

كان الناس في الملجأ وفي الشارع يدعون لله ويسبون الأنظمة وكل القيادات ويلعنون الواقع ولا يبرئون أحداً، ويشعرون أنه ليس لهم إلا الله ويتحملون مصيرهم.

دور النساء:

في عين الحلوة تبعثر الناس بين البساتين مع أطفالهم، أما إسرائيل فلمت كل الشباب(أنا مثلاً انفرزت 4 أو 5 مرات) ثم اعتقلت ونقلت معظمهم إلى أنصار.

وهنا بدأ دور النساء. ولا اعتقد أن بإمكان أي فنان أن يجسد ذلك الوضع الذي عاش في ظله أهالي الجنوب، على الفور بدأت النساء – والجثث ما زالت في الشوارع – تعود إلى بيوت الزنك الذي انصهر وتعمل مع أطفالها على إصلاح البيت، بالأحجار، وبالخشب، تظلل أولادها من الشمس، تعمل كالنمل تعيد بناء عششها التي تهدمت. وكان شاغل إسرائيل والسلطة اللبنانية أيضاً أن تختفي هذه المخيمات لأنها هي البؤرة الحقيقية للثورة، ولكن النساء والأطفال في غيبة الرجال في معسكرات الاعتقال أو المختفين من الرصد الإسرائيلي، قاموا باعادة بناء مخيم عين الحلوة.

شاهدت كيف كان الجنود الإسرائيليون يخشون من الأطفال (الشبل ابن العاشرة أو الحادية عشرة كان لديه القدر الكافي من التدريب الذي يمكنه من حمل مدفع الأربي جي. والمسألة ليست معقدة، دبابتهم أمامك وسلاحك في يدك) كان الإسرائيليون يخشون من دخول المخيم وإن دخلوه فلا يكون ذلك إلا في النهار.

عندما تركت لبنان منذ أكثر من سنة، كان مخيم عين الحلوة قد عاد.. الحائط الذي ينهدم يعاد بناؤه ويكتب عليه "عاشت الثورة الفلسطينية، المجد للشهداء".
أصيبت ابنتنا الصغيرة "جودي" من قصف عشوائي من جماعة سعد حداد وكان ذلك سنة 1981، قبل الاجتياح كنت نائماً وسمعت الصراخ ثم حملتها وهي تصرخ وأجرينا لها عملية جراحية، ولا نزال نعالجها.


بجوار بيتنا هناك ساحة، جاءت جرافات كبيرة وتصورنا أن الاسرائيليين سيقيمون مواقع دبابات لهم ولكنهم كانوا قد لملموا الجثث في الشوارع وأتوا بها لدفنها في هذا المكان الذي أصبح مقبرة جماعية.

وفي هذه المرحلة كان الجيش الاسرائيلي يأتي بصحفيين إلى صيدا ويجعلهم يشاهدون كيف أن الجيش الإسرائيلي يقدم مياهاً للشرب للأطفال. ولم تكشف الصحافة المجازر التي جرت في صيدا. صحيح أن بعض الصحفيين كشفوا الذي حدث في صبرا وشاتيلا ولكن حتى هذا تم جزئياً في سياق هدف سياسي.

وبعد الاجتياح بقيت شهراً في صيدا حاولت مثلي مثل غيري أن أرمم البيت وأن أواسي الناس وأعزيهم، أملأ ماء، أنقل أشياء للناس .....الخ ولكني كنت أفكر ماذا أفعل وانتهيت إلى ضرورة الذهاب إلى بيروت حيث جريدة "السفير" وحيث بإمكاني أن أرسم.

ما زلنا أحياء .. بالصدفة‍‍‍‍
وفي بيروت التقيت بالكاتبين الفلسطينيين حنا مقبل(رحمه الله) ورشاد أبو شاور، وكان يصدران مجلة اسمها "المعركة" فصرت أرسم في "السفير" وأرسم في "المعركة" وأتساءل ما الذي بإمكان المرء أن يفعله في مواجهة هذا القصف من الجهات الست (من الأربع جهات ومن الجو والسيارات المفخمة) . وكان يقول الفلسطينيون " هنا يكون الموت موجب كثير" كان المواطن منا يشعر بالتقصير والعجز ويرحب بالموت.

وعشنا معاً نحن العاملين في "السفير" في تلك الفترة (وحتى البنات مرة طبخن لنا معكرونة بلا لحم طبعاً ولا أي شيء ولكننا وجدناها أشهى أكلة. وكان معنا شاب مصري يعمل في الكانتين ويظل ساهراً معنا ويأتينا بالشاي والقهوة) كانت تجربة خاصة وحميمة وكان شغلنا هو رفع معنويات الناس بالكلمة، وبالمانشيت، بالرسم.
وكنت أسأل نفسي كيف أعبر؟ كنت أشعر بالعجز وأتصور أنه لا يوجد أي شاعر يقدر على تجسيد أي مشهد أو لحظة واحدة من لحظات بيروت، ومع ذلك كنت أرسم.

وفي يوم كان القصف فيه عنيفاً جداً على بيروت، من الجهات الست، وتوقفت كل الصحف ما عدا "السفير" وأين نلجأ؟ لجأنا إلى الدور الأرضي محل المطابع. واستمر القصف طوال الليل ولم يتركوا زاوية أو بيتاً إلا وقصفوه. وعندما خرجت فوجدت كل البيوت مصابة من فوق ومن تحت وانضافت إليها شبابيك جديدة. رسمت زهرة مقدمة لبنت - رمز بيروت- من الفجوة التي أحدثتها القذيفة مع عبارة "صباح الخير يا بيروت".

الوعي يتشكل
إحساسي ووعي للوطن بدأا يتشكلان ونحن في المدرسة الابتدائية بعين الحلوة. كنا نستغل مناسبات مثل وعد بلفور، أو ذكرى تقسيم فلسطين، أو 15 أيار (مايو) للتعبير عن رغبتنا بالعودة إلى فلسطين.

كنا في أيام الذكرى نرفع إعلاماً سوداء فوق المخيم ونمشي في شوارعه وننشد أناشيد قومية لم تكن خاصة بفلسطين أول الأمر، لكنها في المخيم تكتسب معنى فلسطينياً خالصاً. كان هناك بعض الأناشيد الخاصة بمناضلين استشهدوا في فلسطين مثل "يا ظلام السجن خيم / إننا نهوي الظلاما / ليس بعد الموت إلا / فجر مجد يتسامى.

هذا النشيد ردده أحد شهداء ثورة 1936 كان سجيناً وفي يوم اعدامه ألقى هذا النشيد تناقله عنه السجناء الآخرون.

بعد عودتي من السعودية كان بدأ يتشكل في المخيم بعض نشاط سياسي. كان هناك نشاط للقوميين السوريين وانتبهت إلى أن معظم شباب المخيم كانوا مندفعين في حركة القوميين العرب. أما جماهير المخيم فكانت ناصرية، إذ كان أمل الناس بالعودة قد انتعش بعد بروز قيادة عبدالناصر.

غسان كنفاني لم أقرأ له شيئاً في تلك الفترة، غير أنني تأثرت به منذ رأيته يتكلم في إحدى الندوات في المخيم. رأيت أنه يعبر عن هموم الناس، كانوا يحبونه، ونحن كنا نحب كل من يستطيع أن يقترب من همومنا الوطنية. في فترة لاحقة صرت أقرأ له كتاباته السياسية في مجلة "الحرية".
كانت تلك الجملة تعني لي أنه مع كل الحصار المضروب حول شعبنا لا نستطيع أن نطلب النجدة من أحد. ابطال رواية غسان ماتوا على جمارك الخليج دون أن يكون لديهم أي أمل في أن أحداً سيساعدهم أو يسامحهم. كنا نعتبر أنهم ماتوا أمام جمارك الأنظمة العربية جميعها. إذ ليس الخليج إلا رمزاً.

بحكم إرتباطي ومعيشتي ودراستي في المخيم، كنت أشعر لفترة أنني أعيش في "غيتو" فلسطيني. كان اختلاطنا معاً آنذاك بمثابة عزاء نقدمه لبعضنا البعض. كان الغيتو قسرياً من جهة أخرى حيث لم يكن يصح للفلسطيني أن يعمل في المؤسسات العامة، ثم إنه كانت لنا مدارسنا الخاصة فينا التي لا نتعلم في سواها نظراً لأوضاعنا المالية. في الفترة الأخيرة أعطتني تجربتي في جريدة "السفير" فرصة للاحتكاك بشباب غير فلسطينيين. علاقاتي الحميمة الأخيرة كانت مع جنوبيين. اكتشفت أنه كلما تعززت علاقتي بشاب أو بفتاة يطلع من الجنوب. أظن أن بيننا شيئاً مشتركاً، وأظن أن هواي هوى جنوبي.

لم احتك بالوسط الثقافي الفلسطيني، ولم ادخل في المؤسسات الثقافية التابعة لمنظمة التحرير الا في السنة الأخيرة قبل الاجتياح. صرت عضواً في الأمانة العامة لاتحاد الكتاب.

في الفترة الأخيرة، لم أكن فلسطينياً خالصاً في حياتي الشخصية والثقافية. صار مضمون الانتماء الفلسطيني، بالنسبة لي، لباً يأخذ أشكالاً قومية وإنسانية عامة. هذا شعور وليس قراراً. وهكذا كنت أشعر بمعزل عن الصيغ السياسية هذا الشعور استمر عندي حين كانت تقوى النزعات القطرية وتشتد عند الناس العديدين المحيطين بي. كان أحدهم يكتشف فجأة أنه لبناني أو فلسطيني أو سوري. أنا كنت أقاوم هذا التشتت لأنني أرى دائماً أن هناك مجالاً لشعور إضافي غامر يتمثل في وحدة أهدافنا جميعاً.

في بداية وعيي السياسي كنت أظن بأني، مع نفر قليل من أصدقائي في المخيم، نستطيع تحرير الجليل. كنت ولا أزال مقتنعاً بحرب التحرير الشعبية لأنني قد وصلت مبكراً إلى الكفر بالأنظمة وبجميع المؤسسات التابعة لها من عسكرية وسياسية وإدارية وثقافية الخ..

كنت أطمح إلى أن أتعلم القتال، لكن هذا كان قبل الثورة. وعندما بدأ الشعب الفلسطيني يتسلح لم أحاول أبداً أن أطلق رصاصه لأنني أعرف أنني في وضع غير القادر صحياً بسبب العملية الجراحية التي أجريت لي وما زالت آثارها إلى الآن.

أنا كنت مبشراً بالثورة وما أزال. ولكن منذ بداية الثورة كان لي موقف من خط سيرها. كنت أرى أنها يجب أن تكون قومية لا فلسطينية. فثورة 1936 كان لها هذا الطابع الفلسطيني المحض، لذلك لم تنجح ثورة 36 في أن تكون نموذجي الذي يجب أن أحتذيه، كذلك لن تنجح هذه الثورة الأخيرة.

حنظلة
رغبتي بالاتنماء هي الآن أشد مما كانت سابقاً. ولدي شعور بأنني الآن مدعو أكثر من قبل إلى المقاومة وليس شرطاً أن تكون فلسطينية. أنا الآن أملك احساساً بالمقاومة الوطنية اللبنانية وهي قريبة من النموذج الذي أطمح إليه. أية بندقية تتوجه إلى العدو الإسرائيلي تمثلني، وما سوى ذلك فلا.

حاولوا أن يجعلوني "رسام القبيلة" .. مع هذا النظام ضد ذاك.. ولكن كيف أقبل و "حنظلة" معي دائماً.. إنه رقيب لا تتصور مدى قسوته... إنه يعلم ما بداخلي، وهو يراقب هذا الداخل كحد السكين، فإذا أردت أن أستريح لكزني، وإذا فكرت في الرفاهية وحسابات البنوك ذكرني بنفسي... بأصلي وبناسي وأهلي وشعبي.. أستطيع أن احتال على الرقباء الرسميين، فبعضهم لا يفهم المقصود من رسمي، وأغلبهم لا يفهم الفن أصلاً، ولكنني لا أستطيع أن احتال على حنظلة.. لأنه ولدي.

سنوات طويلة مرت وأنا أرسم .. شعرت خلالها أنني مررت بكل السجون العربية، وقلت "ماذا بعد ذلك؟" كان لدي استعداد عميق للاستشهاد دفاعاً عن لوحة واحدة.. فكل لوحة أشبه بنقطة ماء تحفر مجراها في الأذهان.

كثيرون ارتدوا وتساقطوا .. إنهم يشبهون نبات الظل، نضعه في المنزل، نوفر له حرارة معينة وضوءاً معيناً، فينمو، دعونا من أولئك، إنهم موظفون، أما الفنان الملتزم فإنه ينمو وسط الحجارة وتحت الشمس التي تحرق رؤوس أمهاتنا المنتظرات على أبواب المخيم، وفي القلوب المهمومة للبسطاء أينما وجدوا.. في مصر مثلاً هناك من تشدقوا بآلام الناس، وحين وقعت الاتفاقية مع إسرائيل صفقوا .. فسقطوا . وهناك أيضاً من رفضوا أن يعهروا ريشتهم فلجأو إلى رسوم الأطفال.. رسموا للاطفال لأنهم رفضوا القبول بلقمة عيش مغموسة بالكذب... هذا هو الفنان الحقيقي.. ليس هذا في مصر وحدها.. بل في كل مكان، في صفوف الفلسطينيين، وفي المدن العربية وفي شوارع تمتد ولا يعلم بما فيها إلا الله، وكم فيها من ألم ونبل.

عذاب ... الرسم!
الرسم بالنسبة لي مهنة ووظيفة وهواية ، ورغم أنني أعمل رساماً منذ سنين طويلة، إلا أنني لم أشعر أبداً بالرضا عن عملي. أشعر بالعجز عن توظيف هذه اللغة التعبيرية في نقل همي لأن همي كبير؟ والرسم هو الذي يحقق لي توازني الداخلي، هو عزائي ولكنه أيضاً يشكل لي عذاباً. أحياناً أقول إن هذا الكاريكاتور الذي أرسمه يجعل حظي أفضل من غيري لأنه يتيح لي إمكانية تنفيس همي، وإن الآخرين قد يموتون كمداً وقهراً من ذلك الهم الذي يجثم على قلوبهم وينفث سمه اليومي فيهم. أنا أعرف أن الرسم يعزيني.

أشعر أيضاً أن الكاريكاتور لغة تخاطب مع الناس. ولغة تبشير وهو للنقد وليس للترفيه، وأعتبر نفسي جراحاً من نوع ما وأرى أن حزني ومرارتي وسوداويتي التي أعبر عنها في رسومي هي حالة نبيلة ومشتركة بيني وبين المواطنين الذين يحزنهم ويوجعهم هذا الواقع العربي. قلت لك إنني في الكويت خلقت شخصية حنظلة خوفاً من التلوث بالمجتمع الاستهلاكي، وإنني حاولت أن أرسم بدون تعليق وأن أخلق رموزاً مشتركة بيني وبين القارئ ، ومع ذلك فإنني أشعر مرات كثيرة أنني أريد أن أكتب تعليقات وأحكي كثيراً ، أعمل منشوراً، مانيفستو، أريد أن أؤذن في الناس، أو أوصل رسالتي بوضوح وبأي شكل ، وأشعر أني لا استطيع أن "أتمرجل" وأتعالى على القارئ. أحاول أن استخدم أدواتي الرمزية، ولكني أيضاً مشغول بقضية التوصيل الواضح للشخص العادي الفقير والذي يعنيني في المقام الأول.

الفكرة عندي أهم من التوزيع والتشكيل، لأن رموزي اصبحت معروفة. الشخص المتكرش هو رمز للأنظمة، والإنسان الفقير والمرأة الفقيرة والطفل هم رمز للبشر، ليس من اشخاص بل رموز أحركهم كل يوم منذ سنوات كثيرة هم لا يتغيرون، لكن الذي يتغير ويغير هو العالم من حولهم الذي يضعهم كل يوم أمام علاقة جديدة أو إعادة تشكيل جديد.

هناك عدة اتجاهات في فن الكاريكاتير: حالة الحزن والمأساوية صارت مناخاً طغى على الكثير من رسامي الكاريكاتور العرب. وهناك توجه الآن نحو أن يكون للفنان التزاماته التي تجعله قريباً من الناس وليس مسلياً لهم كل صباح. أنا أعتبر هذه المأساوية التي عندي هي من صلب الوضع الراهن. ولو اختلف ذلك الوضع لرأيت هؤلاء الرموز فرحين أو لرايتهم قد ولوا واستبدلوا بآخرين. رموزي قليلة: غني وفقير وحاكم ومحكوم، أرى أن الواقع قادر أن يندرج في هذه الثنائيات. أنا على الأقل أرى ذلك.

كفلاح، أشعر أن وعيي شديد التشبث بالاخلاق. وأنا منحاز كلياً لأخلاق الفقراء والمحكومين، أحاول أن أنحاز لهم بعملي عبر وسائل عديدة بينها التكرار والطرق المتواصل على حديد الواقع القوي.

في الحرب وأنا في الملجأ قلت لزوجتي إنني أنذر نذراً لو بقيت على قيد الحياة فسوف "أفضح" هذا الواقع العربي بكل مؤسساته وبكل أنظمته على حيطان العالم العربي كله إن لم أجد جريدة. وما زلت عند نذري، عندي رغبة في الاستمرار في الايفاء بالنذر... المعركة مفتوحة وما زال عندي أمل. وعندي إحساس أنه لا بد من الحصول على حقوقنا المهضومة مهما كان الثمن. واشعر بالضعف أمام الناس البسطاء، أما النجوم فليس عندي نجوم ، شيء طبيعي أن يكون المرء ثورياً ويكون محترماً ... وليس طبيعياً أن يطلب في المقابل أن يركب على أكتافنا! أعلم أنني سأواصل الطريق، فأنا على موعد هناك.... بعيداً .... ولن أخلفه ، سنلتقي ذات يوم... الجميع ... الشهداء ، وأبناء المخيمات والمغتربون هنا وهناك حاملين صورة الوطن في العيون، و" فاطمة" الفلسطينية التي حملت هموماً تئن تحت وطأتها الجبال... سندق ساري علم فلسطين في تراب الوطن.... سنستمر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
ناجي العلي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى ديرغسانه :: البوم دير غسانه :: شخصيات-
انتقل الى: